recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

ماذا تعرف عن حب الأوطان " الجزء الرابع "

الصفحة الرئيسية

 ماذا تعرف عن حب الأوطان " الجزء الرابع "




إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الرابع مع حب الأوطان، ويجب على كل مسلم أن يحب وطنه، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه، فحب الوطن والدفاع عنه لا يحتاج لمساومة ولا يحتاج لمزايدة ولا يحتاج لشعارات رنانة ولا يحتاج لآلاف الكلمات، فإن أفعالنا تشير إلى حبنا، حركاتنا تدل عليه، حروفنا وكلماتنا تنساب إليه، أصواتنا تنطق به، آمالنا تتجه إليه، طموحاتنا ترتبط به، لأجل أرض وأوطان راقت الدماء، لأجل أرض وأوطان تشردت أمم، لأجل أرض وأوطان تحملت الشعوب ألوانا من العذاب، لأجل أن نكون منها وبها ولها، وإليها مطالبون أينما كنا أن نحافظ عليها، فحب الوطن والتضحية من أجله هو واقع يستحق أن نعمل بحب وتفان من أجل المحافظة عليه لأنه أثمن ما في وجودنا وانتمائنا، فالوطن هو التاريخ والحضارة والتراث، وهو الذي سكن جسدنا وروحنا وذاكرتنا، ومن أجله وخاصة في هذه الفترة العصيبة نحتاج إلى العمل من دون مقابل، لأن الوطن فوق كل شيء، وإن حب الوطن هو فطره ربانيه فى الإنسان وإن هذه سنة الله في المخلوقات فقد جعلها الله في فطرة الإنسان، وإلا فما الذي يجعل الإنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة، والتي قد تصل إلى ستين درجة فوق الصفر، وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارص.

أو ذلك الذي يعيش في الغابات والأدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم، ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إلا حبهم لوطنهم وديارهم؟ لذلك كان من حق الوطن علينا أن نحبه، وهذا ما أعلنه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهو يترك مكة تركا مؤقتا، فعن عبد الله بن عدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكه يقول " والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت " رواه الترمذى، فما أروعها من كلمات، كلمات قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يودع وطنه، إنها تكشف عن حب عميق، وانتماء صادق، وتعلق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلها وحرمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محملا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتها دواء ولو كانت قفارا، فإنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبّ فيها، وتزوج فيها، فيها ذكريات لا تنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد، وقد قال الغزالي " والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرا مستوحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه.

ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتقص" ويروى أنه عندما تقدم نابليون نحو الأراضي الروسية بقصد احتلالها، صادف فلاحا يعمل بمنجله في أحد الحقول، فسأله عن أقرب الطرق المؤدية إلى إحدى البلدان بعد أن أعلن له عن شخصيته، فقال له الفلاح ساخرا " ومن نابليون هذا ؟ إنني لا أعرفه" فقال نابليون غاضبا سوف أجعلك تعرف من أنا، ثم نادى أحد الضباط وأمره بأن يسخن قطعة من المعدن على هيئة حرف "N" الذي يبدأ به اسم نابليون حتى درجة الاحمرار ثم يلصقها بذراعه اليسرى، وبعد أن تم لنابليون ما أراد، هوى الفلاح بالمنجل على ذراعه من عند الرسغ وقطعها، وقال لنابليون والدم ينزف منه "خير لي أن أموت أو أحيا بذراع واحدة من أن أعيش بجسم تلوث بالحرف الأول من اسمك، إنني وما أملك لبلادي " ذهل نابليون من رد فعل هذا الفلاح، فصاح في جنوده أن يحضروا الزيت، ويقوموا بغليه، ويغمروا البقية الباقية من يده فيه، لإيقاف النزيف، قائلا لهم " حرام أن يموت رجل يملك هذه الشجاعة وهذه الوطنية " لكنهم إلى أن أحضروا الزيت وقاموا بغليه كان الفلاح قد نزف دما كثيرا، وما هي إلا دقائق حتى لفظ أنفاسه، وحزن نابليون عليه حزنا شديدا لدرجة أنه أمر بحفر قبر له يدفن فيه. 

ومكث في المكان نفسه عدة أيام، وقبل أن يغادر وضع قبعته الشخصية على القبر وتركها تكريما وتقديرا لذلك الفلاح الجريء، وأمر قواته بأن تتجاوز تلك القرية ولا تدخلها أبدا، فأين نحن من تضحياتنا لوطننا؟ فالتضحية من أجل الوطن ليست مقتصرة على مواجهة العدو والموت في سبيل الوطن ورفع الشعارات، أين هؤلاء الذين يدّعون حب الوطن والوطنية وهم من ذلك براء؟ ولا ترى في أعمالهم وسلوكياتهم وكلامهم غير الخيانة والعبث بمقدراته، والعمالة لأعدائه، وتأجيج الفتن والصراعات بين أبنائه، ونشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة، فإن واجبنا نحو التضحية من أجل وطننا أن يضحي كل فرد في المجتمع بحسب عمله ومسئوليته، فيضحي الطبيب من أجل حياة المريض، ويضحي المعلم من أجل تعليم وتنشئة الأولاد، ويضحي المهندس من أجل عمارة الوطن، ويضحي القاضي من أجل إقامة وتحقيق العدل، ويضحي الداعية من أجل نشر الوعي والفكر الصحيح بين أفراد المجتمع وتصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار المنحرفة، وتضحي الدولة من أجل كفالة الشعب ورعايته، ويضحي الأب من أجل معيشة كريمة لأولاده، ويضحي الجندي من أجل الدفاع عن وطنه، ويضحي العامل من أجل إتقان عمله، وتضحي الأم من أجل تربية أولادها.

وهكذا وإننا إذا فعلنا ذلك فإننا ننشد مجتمعا فاضلا متعاونا متكافلا تسوده روابط المحبة والإخلاص والبر والإحسان وجميع القيم الفاضلة، وها هو الخليل ابراهيم عليه السلام حين ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل عليه السلام فى مكة المكرمة وهى واد قاحل غير ذى زرع دعا ربه أن ييسر لهم أسباب الاستقرار ووسائل عمارة الديار، فقال الله تعالى فى كتابه الكريم فى سورة إبراهيم ما قاله الخليل إبراهيم عليه السلام " ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " وهذا كليم الله موسى عليه السلام حنّ إلى وطنه بعد أن خرج منها مجبرا، فقال الله تعالى فى كتابه الكريم فى سورة الفصص " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون " وقال ابن العربي في أحكام القرآن، قال علماؤنا لما قضى نبى الله موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر، ويقول لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة، وها هو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

كما في صحيح البخاري، لما أخبر ورقة بن نوفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قومه، وهم قريش مخرجوه من مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أومخرجيَّ هم؟ " قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، وقال السهيلي رحمه الله " يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحرّكت نفسه لحب الوطن وإلفه، فقال صلى الله عليه وسلم " أومخرجيَّ هم؟ " أى بمعنى هم سيحرجونى من وطنى فأجاب له ورقه بن نوفل، أن نعم سوف يخرجوك من أرضك ووطنك، وقال الحافظ الذهبي، وهو من العلماء المدققين، مُعددا طائفة من محبوبات رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال أنه صلى الله عليه وسلم " وكان يحب عائشةَ، ويحب أَباها، ويحب أسامةَ، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه، وإن لتعلق النبي صلى الله عليه وسلم، بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه، فقد دعا ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال صلى الله عليه وسلم " اللهم حبب إلينا المدينةَ كحبنا مكةَ أو أشد" رواه البخاري ومسلم، وقد استجاب الله تعالى دعاءه. 

فكان يحب المدينة حبا عظيما، وكان يسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته أي أسرع بها وإن كانت دابة حركها " فقال أبو عبدالله، زاد الحارث بن عمير عن حميد "حركها من حبها " رواه البخاري، وإن حب الوطن من الإيمان، هي كلمة مأثورة حكيمة، جارية على ألسنة عامة الناس وخاصتهم من عقلاء ومفكرين، وحكماء ومثقفين، وهي بالنسبة للمسلم ذات معنى كبير، ومغزى عميق، ذلك أنها تعني أولا الوطن الذي ولد فيه آباء المرء وأجداده، وينتسبون إليه وينتمون أبا عن جد، وخلفا عن سلف، ويرتبطون بأرضه ارتباط الولاء والإخلاص والوفاء له، والتعلق به والجهاد في سبيله، والتضحية من أجله بكل نفيس وثمين طيلة قرون وأجيال، وكان حب الوطن من الإيمان، وكانت هذه العبارة المأثورة الحكيمة كلمة صدق وحق في مبناها ومعناها، بغض النظر عن كونها ليست حديثا نبويا صحيحا في لفظها ونصها، وكانت كلمة حق في نطقها ومضمونها، لأن وطن المسلم بلد للإسلام، وأرض للتوحيد والإيمان، ومجال لصالح الأعمال، فحبه هو في الحقيقة والعمق حب لدين الإسلام، ولغة القرآن، ولشرعه السمح الحكيم، ولأخلاقه وقيمة المثلى، وفضائله ومثله العليا.


ماذا تعرف عن حب الأوطان " الجزء الرابع "


google-playkhamsatmostaqltradent