recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

ماذا تعرف عن حب الأوطان " الجزء الخامس "

الصفحة الرئيسية

 ماذا تعرف عن حب الأوطان " الجزء الخامس "




إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الخامس مع حب الأوطان، وإن وطن المسلم بلد للإسلام، وأرض للتوحيد والإيمان، ومجال لصالح الأعمال، فحبه هو في الحقيقة والعمق حب لدين الإسلام، ولغة القرآن، ولشرعه السمح الحكيم، ولأخلاقه وقيمة المثلى، وفضائله ومثله ا لعليا، وحب لأمته المسلمة المؤمنة، المجاهدة في سبيل دينها وعزتها وكرامة وطنها، الصامدة في الحفاظ على سيادتها ووحدتها، الساعية في تحقيق النهضة الشاملة لبلادها وشعوبها في كل مجال، وإن حب الوطن من الإيمان هى كلمة حق  وصدق  يراد  بها الإخلاص والتجرد والانتماء والتضحية، فموطن الإنسان منا أحب إليه من نفسه وولده وأغلي عنده من ماله وكل ما يملك لذلك عد رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يموت في سبيل الدفاع عن أرضه من الشهداء وقرنه مع الدفاع عن النفس والمال والعرض والأهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد " أبو داود والنسائي والترمذي، وعن سعيد بن زيد، قال صلى الله عليه وسلم " من قتل دون مظلمته فهو شهيد ومن قتل دون أرضه فهو شهيد " ولما خرج رسول الله صلي الله عليه وسل مهاجرا من مكة إلى المدينة.

كما روي عنه فقد وقف علي الحزورة وهو سوق، ونظر إلى البيت وقال صلى الله عليه وسلم " والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك " رواه الترمذي والنسائي، ورغم فساد أهلها وظلمهم له ومحاربتهم لدعوته ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم يعطينا درسا في الانتماء فيقول في رواية أخري صلى الله عليه وسلم " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك " قاله لمكة، رواه الترمذي، وهذا يشير إلى مدي حب رسول الله صلي الله عليه وسلم لبلده مكة المكرمة موطن ولادته ونشأته وفيها البيت الحرام ولأنها منزل الوحي ولأن بها الأهل والأقربين ولأن بها مآثر نبى الله إبراهيم عليه السلام والرسول صلي الله عليه وسلم كان حين يذكر أحد الصحابة مكة أمامه تذرف عيناه بالدمع ويقول له صلى الله عليه وسلم " دع القلوب تقر " فهو عندما خرج من مكة خرج حزينا مكلوماً فبشره ربه سبحانه وتعالى كما فى سورة القصص قائلا " إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " وقد جاء في تفسير القرطبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأوحى الله إليه هذه الآية، ولما أصبحت المدينة هي دار دولة الإسلام أحبها كما أحب مكة. 

فإذا كان في سفر فاقترب من المدينة أسرع في سيره كما ذكر البخاري في صحيحه أنه إذا كان في سفر فأبصر المدينة أوضع راحلته أي أسرع , وفي الحديث دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه، وإن مفهوم التضحية هو بذل الغالي الرخيص وهو يختلف من شخص لآخر تبعا لما يعتقده الإنسان ويتعلق به، فتجد أن الإنسان إذا أحب شيئا ما فإنه يضحي من أجله، فهذا عروة بن الزبير لما تعلق حب الله في قلبه ضحي بقطع ساقه وهو ساجد حتى لا يغفل قلبه عن ذكر الله لحظة فالمحب يهيم في محبوبه حتى لا يكاد يرى غيره، ويروى أن قيس بن الملوح مجنون ليلى تابع كلب ليلى ليدله، فمر على قوم يصلون، وعندما عاد مارا بهم قالوا له ترانا نصلي ولا تصلي معنا ؟ قال كنتم تصلون ؟ قالوا نعم، فقال والله ما رأيتكم، ولو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى ما رأيتموني، فهذا مشغوف بحب ليلى حتى حجبه حبها عن رؤية المصلين، ونرى أن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كانوا دائما يضحون بأرواحهم فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا نابع من حبهم له، ففي طريق الهجرة كما ذكر ابن القيم في زاد الميعاد، والبيهقي في الدلائل " أن أبا بكر الصديق ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الغار. 

كان يمشي بين يديه ساعة، ومن خلفه ساعة، فسأله، فقال أذكر الطلب يعنى ما يأتي من الخلف، فأمشي خلفك، وأذكر الرصد أى المترصد في الطريق، فأمشي أمامك، فقال صلى الله عليه وسلم " لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟ " قال أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه " وهذا زيد بن الدثنة قال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل " أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنى جالس في أهلى، فقال أبو سفيان " ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا" وهذا صهيب صاحب المال الوفير في مكة ضحى بماله من أجل الهجرة ورفع راية الإسلام، فعن صهيب قال " لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش يا صهيب، قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ربح صهيب، ربح صهيب" مرتين، فأنزل الله تعالى فيه قوله عز وجل فى سورة البقرة.

" ومن الناس من يشؤى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد " وقد كان لكثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صفحات طويلة من البذل والتضحيات، فهذا هو الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه، يعرّض نفسه للهلاك ويضحي بحياته بنومه في فراش النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، عشية الهجرة، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه، ويُعرض أبو الدرداء عن التجارة تفرغا لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقبل خالد بن الوليد التنازل عن منصبه طاعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عندما أمره بتسليم القياده إلى أبو عبيده عامر بن الجراح، ويتنازل أبو عبيدة عن إمرة الجيش لعمرو بن العاص جمعا لكلمة المسلمين، ويرفض الحسن بن علي رضى الله عنهم أجمعين الخلافة درءا للفتنة وجمعا للكلمة، ويقبِّل عامر بن عبدالله رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى المسلمين، ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائع بالجود والتضحية، فقد ضحت السيدة أم سلمة بشمل الأسرة، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الهجرة، وأيضا السيدة  أسـماء بنت أبى بكر الصديق وعناؤها أثناء الهجرة، ولا تضحيتها بابنها عبدالله بن الزبير في سبيل نصرة الحق.

فإذا كانت التضحية في كل ما سبق في الجانب الإيجابي، فكذلك تكون التضحية في الجانب السلبي لأن صاحبه يعتقد فكرة أو حرفة أو جريمة يضحي بكل شيء من أجلها مع أنها باطلة ومحرمة؛ فأنت ترى أن السارق يضحي من أجل سرقته ولو أدى ذلك إلى حبسه وسجنه وترى الزاني يضحي من أجل شهوته وترى شارب الخمر يضحي بالغالي والرخيص من أجل سكره، وترى صاحب الأفكار المتطرفة الهدامة العفنة يضحي بنفسه وماله من أجل ترويج باطله، حتى ولو أدى ذلك بحياته، فالمخلص لوطنه من يحمل أدوات البناء والتشييد، والمعادي له من يحمل معاول الهدم والتخريب، والمحب لوطنه من ينشد الخير والسلام والأمن لبلده ومجتمعه، وعكسه هو الذي يسعى لإذكاء الفتن وإشعال الحرائق ويمارس الإرهاب والجريمة المنظمة، وإن جميع هؤلاء يتغنون باسم الوطن ويدعون خدمته والعمل لصالحه، واختلطت على العامة المفاهيم والأعمال، وبات من الصعب في العديد من الحالات والظروف والأوضاع والاضطرابات السياسية والأمنية التمييز بين المصداقية والزيف في استخدام هذه الشعارات، وبين المواطن الصالح الناصح الباني لوطنه، وذلك الكاذب المضلل المتاجر بقضايا وطنه وشعبه، بين من يدافع عن الوطن ومن يخونه.

ومن حب الوطن هو أن تنظروا إلى بلال بن رباح رضي الله عنه وهو عبد حبشي كان يسكن مكة ولما هاجر كان يحن إليه وهي الأرض التي عذبته، وكان يفول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، بفخ وحولي إذخر وجليل، وهل أردن يوما مياه مجنة، وهل يبدون لي شامة وطفيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى أصحابه من المهاجرين يشتاقون إلى بلدهم دعا الله " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشد حبا " ولا عجب فحب الوطن من الإيمان وقديما قال الحكماء إن الحنين من رقة القلب ورقة القلب من الرعاية والرعاية من الرحمة والرحمة من كرم الفطرة وكرم الفطرة من طهارة الرشدة أي صحة النسب، وطهارة الرشدة من كرم المحتد، أي الأصل وقال أخر ميلك إلى مولدك من كرم محتدك، وقال بعض الفلاسفة فطرة الرجل معجون بحب الوطن ولذا قال أبقراط  يداوي كل عليل بعقاقير أرضه فان الطبيعة تتطلع لهوائها وتنزع إلى غذائها، وقالت الهند حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك لأن غذائك منها وأنت جنين وغذاءهما منه وقال أخر من إمارات العاقل بره لإخوانه وحنينه لأوطانه ومداراته لأهل زمانه، وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلادها رملا وعفرا أى ترابا، حتى تستنشقه عند نزلة أوزكام أو صداع، لذلك كانت السيدة عائشة رضي اله عنها دائما تقول "ما رأيت القمر أبهي ولا أجمل مما رأيته في مكة" وذلك كناية علي حبها وعشقها وشدة حنينها للوطن.


ماذا تعرف عن حب الأوطان " الجزء الخامس "


google-playkhamsatmostaqltradent