recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

يوم حلق الفراهيدي بقلم: ربيع دهام

 يوم حلق الفراهيدي  

يوم حلق الفراهيدي  بقلم:  ربيع دهام

بقلم:  ربيع دهام

قبل أن تلتحموا بأعمالكم اليومية ، أريد فقط أن أسمِعُكم قصةً قصيرة.

رجلٌ فقيرٌ يلتحف الرصيف.

 أمامه ، تتربع صالة كبيرة ، تشمتُ به . تتأهب لاستقبال وفود إضافية.

بعد ساعةٍ ، وصل الجميع.

أطفئت الأضواء.

افتُتِحَ الحفل الضخم بموسيقى النشيد الوطني. 

تأهب الحاضرون وانتصبوا ، صامتين مؤمنين ، منتظرين أي مهمةٍ مصيرية يطلبها منهم الوطن.

عاند أحد الحضور مثانته ، الممتلئة إيماناً وطنياً صافياً ، خالياً من الدسم ، ومن أي مواد كيماوية أخرى أو كحول ، وأرجأ هرولته إلى دورة المياة. 

ألدورة الوحيدة التي يفكر أن يلتحق بها الآن  هي دورة المغاوير. 

انتهى النشيد. أضيئت الصالة. 

" هرْغَل" حماس الحضور  بمجرد وصول الضوء إلى العيون.

تلى النشيد كلمة ترحيبية لممول المهرجان. 

ذاك العجوز الثري ، الممتدة أياديه "الخيرية" و"المعطاءة"  إلى أعماق الوطن.

 بل إلى أعمق من ذلك بكثير. إلى جيوب النواب.

ولمن لا يعرف ، من هنا جاء المصطلح : "الكُتَل النيابية".

تلى الكلمة الترحيبية خطاب للنائب عن المنطقة. 

تلى خطاب النائب عن المنطقة ، خطاب نائب آخر عن المنطقة.

وتلى خطاب النائب الآخر عن المنطقة ، خطاب نائب آخر عن الآخر عن المنطقة.

وتلا خطاب النائب الآخر عن الآخر عن المنطقة ، خطاب الأرواح للأجساد: 

" أرجوكم. أقبل أقدامكم. أتوسل إليكْم. اخرجونا حالاً من هنا. ما هذا الجحيم الذي علينا أن نتحمله؟  أهذه خطابات أم عذاباى؟".

ولا تتعجبوا أيها القراء. فلو كنتم أنتم في الحفلِ معنا ، لتفهمتم رجاء تلك الأرواح المسكينة إلى الخلاص.

فخطابُ النواب الثلاث  قد دام حوالي المئة والخمسين دقيقة . أو مئة وخمسون سنة . أو  مئة وخمسون أبدية.  لا أعرف.

ولا أقول أن خطاباتهم كانت سخيفة  معاذ الله!

فهم قد تحدثوا عن مشاكل بلادنا. 

وبدا عليهم التأثر ، مثل أم كلثوم وهي تغني.

 وقد فندوا عللها – أقصد علل بلادنا وليس أم كلثوم - علةً علة : 

"الطائفية. الأنانية الفردية. الأنانية الحزبية. النظام الريعي. لا زراعة. لا صناعة. لا دواء. لا بنزين.  لا لحمة. لا لية. لا نية. إجهاض أحلام. إنسداد تخطيط. تُخُم وعود. نحول آفاق. تورُم آمال. قصر نظر".

وبإمكانني أنا ، العبد الفقير ، وبعد سماعي كلامهم ، أن أضيف على تلك المآسي مأساةٌ جديدة. " طول خطابات".

نعم. فخطاباتُنا ، على قول الشاعر نزار قباني ، مثل سيوفنا طويلة.

 وأطول من قاماتنا.

وعلى سيرة نزار، وبما أن الشيء بالشيء يذكر ،سمعتُ فجأةً صوتاً جهورياً يتلو الكلمات من على المنبر ،  وكأنها موسيقى تدلف إلى الجيوب. 

عفواً. أقصد إلى القلوب.

طبعاً ، وفي كل مناسبة وطنية مثل هذه ، لا بد أن يحين ، ولو بعد حين ، وقت الشعر.

اعتلى المنبر. تنهد. نظر نحو الحضور بعينينِ "ميتافيزيقيتين". 

لا تسألونني ما معنى " ميتافيزيقيتين". 

 قد سمعت عنها  ولا أعرف معناها.

 نعم. كان الكل يحدق ، والكل يبحلق ، والكل يركز.... في الصحنِ الذي أمامه.

وبين طرطقة الصحون ، وقرقعة الملاعق والأشواك ، وفرقعة مصارين البطون ، حلق الشاعر ، مع أبياته الموزونة ، على ميزان "أم جيجي" ، زوجة العجوز الثري منظم الحفل.

واتضح لاحقاً ، أيها القراء ،  أن "جيجي"  هو الإسم المختصر لابنها البكر "جهبندر إبن أبو بورسولان المعمداني".

أما لماذا "جيجي" ، فمن المعلوم أنه  كلما علت الطبقة الإجتماعية والمادية للفرد ، قُضِم من حروف الإسم حروفاً جديدة. 

ولا عجب في ذلك ، باعتبار أن سلم الطبقات ، من شروط الصعود عليه ، هو  أيادٍ تقضم بطريقها  كل شيء ، وأقدامٍ تهرس بطريقها أي شيء.

راح شاعر البلاط يمتدح منظم المهرجان الثري ، أو أبو "جيجي".

 وراح جمهور البلاط يصفق للكلمات المجنحة الطائرة نحوه.

ركض الرجل الأمي الفقير ، والذي كان يلتحف الرصيف في أول المقال، نحو أبيات الشعر الموزونة الطائرة. 

ولانه لا يعرف الفرق بين البيوت والأبيات ،  قفز إلى أحداها محاولاً التعلق بشباك من شبابيكها.

وبخه شاعر البلاط : " ما بك تفعل أيها السارق؟"

أجابه الرجل الفقير : "  أبحث عن بيتٍ أسترُ فيه زوجتي وأولادي".

نهره شاعر البلاط : " ولكن هذه الأبيات ملكي. ولا يحق لأحد غيري أن يتملكها".

انفعل الرجل الفقير: 

"هذه البيوت ، لحظة خروجها من فمك ، صارت ملكاً للناس وليست ملكك".

عانده الشاعر : 

" أنا الذي أحدد إن كانت ملكي أو ملك الناس. أبياتي الشعرية لا أحد في الدنيا يستطيع أن يتملكها. أنا لا أبيعها لأحد".

استشاط الفقير ألماً وغضباً وصاح بصوتٍ مرتجفٍ : 

" أنت؟ أنت الذي بعتَ نفسك للثري تتكلم؟".

غضب شاعر البلاط  ورمى  الأوراق التي بين يديه ، فتساقطت الأبيات الشعرية الطائرة أرضاً. 

أصاب ركامها الحضور بالنزلة الصدرية ، والفراهيدي بالذبحة القلبية. 

ولما رأى شاعر البلاط أبياته تتناثر ، ركض نحو الرجل الفقير يريد ضربه.

هرب الرجل الفقير نحو الحاضرين محاولاً الإحتماء بهم.

ولكن ، ولتعاسة حظه ، تجمهر حوله كل "الـ بِـهِـم" ،  وانقضوا عليه شتماً وركلاً وضرباً وتنكيلا.

وراحوا يصرخون بصوتٍ واحدٍ : " لص! ... لص!".

مات "اللص" في تلك الليلة ، وأكمل الحاضرون المهرجان وكأن شيئاً لم يكن.

وغضب الشاعر جداً.  غضب كثيراً. 

 غضب لأن ممول الحفل الثري لم يضف إلى المبلغ المتفق عليه بينهما ، أي مبلغاً إضافياً  يكون  بدل تعبه وعمله الدؤوب في صد وضرب الرجل الفقير. 

حدث جفاءٌ موجعٌ للقلبِ بين أبو "جيجي" والشاعر.

جفاءُ اتضطر ، على أثره ، المجلس النيابي ، والحكومة ، أن تجتمع ، 

 لتعيد الأمور ، بين الشاعر والممول ، إلى مجاريها. أو إلى مجاريرها.

هنا انتهت القصة.

آه عفواً. نسيتُ أن أذكر لكم .

النشيد الذي كان قد عُزِف في أول الحفل كان نشيد دولةٍ أخرى. 

حدث خطأ تقني ما ، بُدل من دون قصدٍ ناقلٌ بناقلٍ آخر. 

ولكن الحمدلله ، وبلا طول سيرة ، لم ينتبه أحد من الحاضرين لهذا الخطأ. 

والآن ، أريد أنا أن أسألكم : 

أطويلةٌ قصتي القصيرة هذه؟


( بقلم  ربيع دهام)


google-playkhamsatmostaqltradent