زمن البراءة.. بقلم: حسين الحانوتي PDF
بقلم: حسين الحانوتي
صفحة بيضاء طوتها الأيام، تحمل بين طياتها من خزائن الذكريات ما لا يمحوه الزمن، وما لا تؤثر فيه عجائب الأقدار. تقلبات مرت علينا لكنها لم تمس ذاك النقاء، ولا صفاء الروح، ولا براءة القلب. هي الطفولة، مهد الحلم، ومبتدأ القدر الذي خطّه الله لنا.
لم يكن قلبنا ينسى دفء الحياة العائلية، تلك التي كان فيها الأب سندًا وقدوة، ينهض إلى صلاة الفجر في وقتها، وينشغل بعدها بمهامه لا بأمور غيره. كانت الحياة بسيطة، لكنها مليئة بالمعاني.
الجيران، وجوههم تحمل تجاعيد الزمن، تعبر دون كلمات عن أحوالهم. والعائلة، في اجتماعها وترابطها، كانت ترى في الخاص شأنًا عامًا، يُتقاسم ويُشارك بمحبة لا تكلّف فيها ولا رياء.
كان الصغير يعرف قدره، لأنه نشأ بين رموزٍ حقيقية من الاحترام والهيبة. الكبير يُجل ويُطاع، دون أنفٍ مرتفع أو صوت متذمر. الاحترام كان فطرة، والتقدير واجب، لكل كبير، سواء كان أبًا أو عمًا أو خالًا أو جارًا، أو حتى ضيفًا مرّ من الدار مرور الكرام.
ذكريات الطفولة، بما تحمله من معانٍ ومشاعر صافية، أصبحت وسيلتنا غير المُعلنة لتحسين حالتنا النفسية والمزاجية. نلجأ إليها، ربما دون وعي، كلما ضاقت بنا الحياة. بعضنا لا يجد راحته إلا في الأماكن التي نشأ فيها، والبعض الآخر يوصي أن يُدفن حيث وُلد، مهما باعدت بينه وبين مسقط رأسه مشاغل الدنيا. وهناك من يحاول العودة للسكن في نفس الحي الذي ترعرع فيه.
تلك الفترة من العمر، على قِصرها، تبقى الأشد أثرًا، والأكثر رسوخًا في وجدان الإنسان. لا تعوضها حياة مترفة، ولا تغني عنها إنجازات مهما عظمت. تظل الطفولة فيلمًا حيًّا يعرض نفسه على شاشة الذاكرة طوال الحياة، سببًا لتعلّق الإنسان بأرضه، وحنينه لكل تفاصيل وطنه.
في الوطن، عاش أجمل الأيام. فيه لعب، وضحك، وركض في الأزقة، وتنزّه مع العائلة، وبنى علاقات بقيت حيّة رغم الغياب. فيه مشى لأول مرة، ونطق أولى كلماته، وتعلم كيف يسمع ويحس ويعيش. كل ذلك يكفي ليملأ القلب حبًا وولاءً لأرض النشأة والانتماء.
فهل يعود الزمان؟