recent
أخبار ساخنة

«لقد طلقت».. قصة قصيرة بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي

 

«لقد طلقت».. قصة قصيرة بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي

«لقد طلقت».. قصة قصيرة بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي 


 - لقد طُلقت اليوم. 

 قالتها في أسىً بالغ، وراحت تنتحب في هيستريا. ضممتها إلى صدري، ورحت أربت على كتفها؛ فانفجرتْ في بكاء وويل، وخرجتْ كلماتها متقطعة، أشبه بحشرجة الموتى.

 كنت أستمع إليها، وأنا صامتة، جامدة كلوح خشبي. لمَّا شعرت بجفائي، نبذت نفسها مني، وقابلتني بوجه كسير، ثم كررت جملتها الأسيانة؛ كي تستدر مشاعري:

 - لقد طُلقت اليوم، هل سمعتِ ما قلته؟

 كانت تظن أنها فجرت في وجهي إحدى القنابل المسيلة للدموع، وأنني سأبادلها بكاءً ببكاء، ونحيبًا بنحيب، غير أن الذي حدث، هو أن وجهي بدا جامدًا لم تظهر عليه أية تعبيرات توحي بالحزن أو الرثاء أو حتى المفاجأة.

 بعد أن مسحت دموعها التي أذابت عبير خديها، سألتني في استنكار:

 -  ألم تحزني لمصابي؟ لقد أخبرتك أني طلقت، لقد طلقني اليوم، وهذا اليوم أسوأ يوم في حياتي. 

 انتظرت حتى هدأت، ثم جابهتها بالحقيقة الغائبة عنها: 

 - إن الطلاق - يا عزيزتي - قد وقع منذ سنوات، أعني أسبابه، واليوم فقط، مُنح شهادة توثيقه. 

 فغرت فاها دهشة، فأردفتُ:

 - إن ما حدث لك اليوم، هو أمرٌ مسَلَّم به سلفًا، وكنت أترقب وقوعه لا محالة.

 بُهتت لمقالتي، وتجمدت الدموع في محجريها، فغامت نظراتها، وجعلت ترِفُّ بعينيها في محاولة إفراغهما من الدموع، ولما يئست، ازدردت ريقها، قبل أن تسألني:

 - ماذا تقصدين؟

 كان ثمة انكسار يغلف الأحرف، والتي بدت جافة وخشنة، تناولت من حقيبتها زجاجة ماء، وراحت ترتشفها في نهم، حتى أتت عليها. لم تهزني دموعها بقدر ما هزتني جملتها الأخيرة، قلت لها مواسية:

 - لا تكترثي للأمر، ما حدث قد حدث، المهم أن تعي الدرس جيِّدًا.

 هزت رأسها موافقة، فانحدرت دمعتان حارتان على معصمي، مسحت بهما كفي، فنظرت إليَّ معتذرة، وتمتمت بكلمات غير مفهومة. 

 كانت الشمس قد حميت، فانتحينا بعيدًا عنها، كنت أسمع دقات قلبها، وهي تسير بجانبي، كنت أتوجع لمصابها، وإن جاهدت أن أبدو جامدة، كي لا أزيد من حزنها، كنت أريد أن تكون صلبة وقوية، وألا تستسلم لليأس. 

 هدأت بعض الشيء، وعاد إليها تورد خديها، وبينما نتجاذب أطراف الحديث، تناهى إلى مسامعنا صوت طفلها يبكي بشدة، وهو يهتف بأمه، عدونا نحوه، كان الطفل قد تشاجر مع ابن عمه، والذي كال له الضرب واللكم والشتم.

 ضمت ابنها إلى صدرها، وانفجرت في بكاء مرير، لقد شعرتْ بالغربة في البيت الذي تربت فيه، وخرجت منه عروسًا، ولكنها اليوم تعود إليه وهي تجر وراءها ثلاثة من الأطفال، وتقف عاجزة عن نصرتهم.

 - لأول مرة أشعر أنني غريبة بين غرباء.

 قالتها، وهي تجفف الدموع من عين طفلها، ثم قالت له في حزم:

 - كن رجلًا، لا يوجد رجل يبكي.

 ثم حملقت في عينيه طويلًا قبل أن تقول له:

 - كن جلدًا؛ كي لا تنكسر مثلي، إنني أريد أن أتعكز عليك.

 ثم سارت نحو الفناء الداخلي، وهي تتوكأ على ابنها. كنت أسير خلفهما، وأراها، وقد احدودب ظهرها، وهي تتكئ على طفلها، فبدت كعجوز قد تقدم بها العمر ثلاثة عقود دفعة واحدة. ذكَّرتها بما قلتُه لها مرارًا، عندما كان يحتد النقاش بينها وبين مطلقها:

 -  البنت عندما تغادر بين أبيها إلى بيت زوجها، تمسي غريبة، وتأتيه زائرة ثم ترجع لبيتها.

 - ولكني الآن قد فقدت البيتين معًا، طردت من بيت زوجي، وأشعر بأنني غريبة في بيت أبي.

 حاولت أن أواسيها، ولكن لم يكن لكلامي أية جدوى.

 - ما أبشع الطلاق!

 صرخت بها وهي على عتبة البيت، بعد أن تمزقت لها أحشاؤها.

 ما إن ولجنا، حتى علا بكاء الصغير، يستنجد بأمه أن تعيد إليه حقه، وأن تنتصر له من ابن عمه. وقفتْ حائرة، وقد لفها العجز، وخشيت إن انتصرت لابنها، أن تطرد وأبناءها من بيت أبيها، فتجمدت مكانها كتمثال صب من صخر. 

 فقبضت بكلتا يدي على معصم الصغير، ورحت أتشاجر مع خصمه؛ كي أعيد إليه شعوره بالأمان، ثم صالحتهما؛ وتركتهما وهما يلعبان سويًّا. والتفت ورائي، كانت لا تزال في مكانها لم تبرحه، كانت تراقب الموقف بعينين زائغتين، ناديتها فلم ترد، كانت أشبه بتمثال لا روح فيه، انطفأ بريقها، وزايلها جمالها الذي كان مضرب المثل. كان عليها أن تتحمل حياتها الجديدة، وأن تتأقلم مع الظروف الطارئة، فلا تزال في أول يوم طلاق، وعليها أن تكون طويلة البال طويلة النفَس.


google-playkhamsatmostaqltradent