recent
أخبار ساخنة

وسائل التواصل الاجتماعي: نافذة للتقارب أم سبب للعزلة الاجتماعية؟ BDF

 

وسائل التواصل الاجتماعي: نافذة للتقارب أم سبب للعزلة الاجتماعية؟ BDF

وسائل التواصل الاجتماعي: نافذة للتقارب أم سبب للعزلة الاجتماعية؟ BDF


بقلم: د. خالد البليسى

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للترفيه أو قنوات لتبادل الصور والرسائل القصيرة، بل غدت مكوّنًا أساسيًا في تفاصيل حياتنا اليومية. الهاتف الذكي الذي نحمله بين أيدينا أصبح نافذة مفتوحة على العالم، نطل منها على ثقافات متنوعة، ونتواصل عبرها مع الأهل والأصدقاء، ونطالع من خلالها أخبار العالم لحظة بلحظة.

هذه الوسائل الحديثة منحتنا فرصة ذهبية لتجاوز قيود الزمان والمكان؛ فبمجرد لمسة على الشاشة يمكن للإنسان أن يتواصل مع من يعيش على بعد آلاف الكيلومترات، وأن يحافظ على صلة رحم أو صداقة قديمة ربما كان من الصعب استمرارها لولا هذه التكنولوجيا. لقد قرّبت البعيد، وأحيت الروابط الإنسانية، وساهمت في تكوين صداقات جديدة، بل وأصبحت أداة مهمة لدعم المبادرات المجتمعية والقضايا الإنسانية.

وفي هذا السياق، يتجلى قول الله تعالى:

﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]،

فالغاية من التواصل والتعارف هي بناء جسور من الرحمة والتعاون بين البشر، لا أن يتحول إلى عزلة أو قطيعة.

إلا أن الوجه الآخر لهذه النافذة الرقمية يكشف لنا مشهدًا مختلفًا. فكثرة الانغماس في العالم الافتراضي قد تحرم البعض من متعة التواصل الحقيقي. كم من أسرة تجتمع على مائدة طعام، لكن كل فرد غارق في هاتفه، فلا حوار ولا تبادل مشاعر؟! إن هذه الظاهرة ولّدت عزلة صامتة، وجفاءً في العلاقات الإنسانية، حتى أصبح البعض أكثر ألفة مع جهازه الإلكتروني من قربه لأسرته وأصدقائه.

ويحذرنا النبي ﷺ بقوله:

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" [رواه البخاري ومسلم].

فالكلمة أمانة، وما يُكتب أو يُنشر عبر هذه الوسائل ليس بعيدًا عن هذه القاعدة، إذ يمكن أن يكون الكلمة الطيبة صدقة، أو تكون الكلمة الجارحة سببًا في فتنة وقطيعة.

إن وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين: فمن أحسن استغلالها جعل منها وسيلة للتقارب، والتعلم، وتبادل الخبرات، وإيصال صوته في القضايا المهمة، ومن أساء استخدامها فقد يجعلها بابًا للعزلة، أو طريقًا لتضييع الوقت فيما لا ينفع.

وهنا نستذكر قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

"قيمة كل امرئ ما يُحسن"،

فمن أحسن استخدام أدواته ارتفعت قيمته، ومن أساء استخدامها قلَّ أثره وضعفت مكانته.

ولعل الأديب مصطفى صادق الرافعي كان بعيد النظر حين قال:

"وسائل الاتصال الحديثة قرّبت البعيد، لكنها قد تُبعد القريب إذا لم نحسن استخدامها."

كلمة تختصر واقعًا نعيشه اليوم بكل تفاصيله.

إن الشباب هم القلب النابض للأمة، وأملها في الحاضر والمستقبل. وتبقى كيفية تعاملهم مع وسائل التواصل الاجتماعي مؤشرًا على شكل الغد. فإذا جعلوها منبرًا للتعلم، وساحة للحوار الراقي، ووسيلة لإطلاق طاقاتهم الإبداعية، فإنها ستكون أداة للبناء والنهضة. أما إذا تحولت إلى سجن رقمي يحبسهم خلف الشاشات، ويضعف قدرتهم على التواصل الواقعي، فإنها ستسرق منهم أعز ما يملكون: وقتهم، وأحلامهم، وطاقتهم.

يقول الله تعالى:

﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]،

وهي آية كريمة تذكّرنا بأن كل ما نتصفحه ونكتبه وننشره سيُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، فلا عذر له إن ضيّع وقته أو أساء القول والفعل.

من هنا تبرز الحاجة إلى الموازنة بين العالم الرقمي والواقع الملموس، بين ما نكتبه خلف الشاشات وما نعيشه وجهًا لوجه. فالحياة لا تختزل في إشعار على شاشة أو رسالة سريعة، بل تبنى في لقاء صادق، وحوار مباشر، وابتسامة تُهدى من القلب.

وسائل التواصل الاجتماعي باختصار هي مرآة لا كذب فيها: تُظهر شخصياتنا كما نرسمها نحن. يمكن أن تكون جسرًا للتعارف، ودربًا للتقارب، وساحة للبناء، كما يمكن أن تكون سورًا للعزلة، وبابًا للضياع. القرار في النهاية بأيدينا نحن، والاختيار يبدأ من طريقة استخدامنا لهذه النافذة.

فلنجعلها معينًا على الخير، ولنستثمرها فيما يقوي روابطنا الأسرية والاجتماعية، ولنبتعد عن استخدامها فيما يضعف صلتنا بالآخرين. ولنتذكر دائمًا أن الكلمة مسؤولية، وأن كل لحظة نقضيها في هذا العالم الرقمي إما أن تكون رصيدًا لنا أو علينا.


google-playkhamsatmostaqltradent