recent
أخبار ساخنة

«حبات الدر» قصة قصيرة

 

«حبات الدر» قصة قصيرة

«حبات الدر» قصة قصيرة


كتب - سعيد محمد المنزلاوي 


 كنتُ عائدًا من عملي، بعد يوم مضنٍ، كنت أشعر بالإرهاق، وفي حاجة ماسة للراحة والنوم. على عجلٍ تناولت وجبة العشاء؛ كي أخلد للنوم؛ لأريح جسدي المنهك من عناء العمل طيلة النهار.


 توسدت كفيَّ وأسلمت عيني للنعاس؛ فسرى إليها حثيثًا، يختلط الحُلم بخيالات الواقع، وأشعر بلذة تخدير لقدميَّ المتورمتين، ولم أكد أنم؛ حتى انتبهت على اتصال هاتفي، جعل النوم يفر من عيني، حملقت في اسم المتصل، ولأول مرة أقوم بإلغاء الاتصال، دون أن أرد؛ كنت بحاجة ماسة إلى النوم، وكانت قدمي لا تزال تؤلمني.


 عاودتْ الاتصال ثلاث مرات، وفي المرة الرابعة قمت بالرد؛ كانت صوتها متهدجًا، عبثًا حاولت تهدئتها، كان قد بقي على بزوغ الفجر قريبًا من ساعتين، استأذنتها أن أنام لأنني مرهق من العمل، على أن ألتقي بها بعد الدوام، ولكنها قالت بصوت متكسر:

 - وتتركني؟

 أدمتني الكلمة، فنفضتُ عني غطاء النوم، وصرت أذنًا تصغي لتباريح حزنها ووجعها، وتنفعل لتنهيداتها وما يتصارع داخل صدرها المكلوم من شتى الهموم.

 حاولت أن أستشف منها سر ذلك الوجع، لكنَّ الأصعب من الوجع شرحه، وهي لا تُحسن الكلام، وإنما تكتفي بالأنين، وما أشد وطأته على الأذن! فما بالك حين يصدر عن نفس جريحة متمزقة.

 وبالرغم من مرور ما يقرب من ساعتين، إلا أنني لم أقف على أسباب ذلك الألم الذي تعاني منه، لا سيما وأكثر ما بلغني منها أنات وآهات ودموع.

 كان الاتفاق أن نلتقي بعد الدوام، ومرت عليَّ الساعات ثقيلة متباطئة كسلحفاة كسيحة، وما أن انتهى الدوام؛ حتى حثثت الخطا إلى ذلك المكان الذي اعتدنا الجلوس عنده وسط الطبيعة الخضراء. كانت هناك في انتظاري، تأملتها لبرهة، كانت تجلس في انكسار بثوبها الأخضر، وقد تهدلت على كتفها أوراق شجرة الصفصاف، فبدت كأحد فروعها الخضراء.

 دنوت منها، كان وجهها شاحبًا كالموتى، صافحتها، كانت يدها باردة لا نبض فيها، جلستُ قبالتها، لاحظتْ شحوب وجهي، فزاد تأثرها، وقالت في أسى:

 - سامحني!

 - أسامحك؟ وهل تجنيتِ عليَّ؟

 - حسبك أنك لم تذق طعم الراحة مذ عرفتني.

 هززت رأسي علامة النفي، ورحت أتفرس في عينيها الزرقاوين، لعلهما تخبراني بسر ذلك الحزن المكنون فيهما كحبات الدر، ولكنهما كانتا صامتتين، جامدتين، لا تحكيان شيئًا.

 أجفلت عيناها، ونكست رأسها، حتى ارتطم ذقنها بنحرها، وداعب النسيم خصلات شعرها؛ فأهداني بعض الشذى والعبير.

 هتفتُ باسمها، فرفعتْ نحوي عينيها الزرقاوين، وقد اغتسلتا بالدموع.

 زاد إشفاقي عليها؛ فقد تريح الدموع كَلِمَ النفس، ولكنها تتسبب في إحداث الكثير من الندوب في أديم الروح.

 بدت عيناها بعد الدموع كسماء صافية، رحت أتفرس فيهما لبرهة، ثم قلت لها في رجاء:

 - ما بك؟

 تنهدتْ هذه المرة، ولكن من أعماق قلبها، حتى أشفقت على قلبها الغض أن ينفطر.

 ربتُّ على كتفها فأمالت رأسها وتوسدتْ راحتي، أجفلتْ عيناها، وتعلقت بأهدابها بعض حبات الدر.

 سرى الخدر في راحة يدي، لكنني لم أبالِ؛ كانت راحتها عندي هي الأهم. أمكنني سكونها أن أتأمل محياها، كانت سمرتها تحكي أديم الأرض، وكانت إذا ضحكت بدا الخال غائرًا كبئر سحيق، ولكنها قلَّما كانت تضحك.

كنت أجلس قبالتها في خشوع، وتسمرت عينيَّ على محياها، حتى فتحت عينيها الناعستين؛ فصرفت بصري فورًا على لا شيء. عضت على شفتها السفلى، وقالت في صوت سرى كالنغم الآسر:

 - دائمًا ما تنتهز الفرص، أنام؛ فتتفرس في وجهي.

 تلعثمت، ولم أحر جوابًا. وابتسمنا، فبدت نواجذها في صفاء اللؤلؤ. قلت لها مغازلًا:

 - ما أجمل بسمتك!

 أرادت أن تتكلم، ولكنها اكتفت بأن أهدتني مزيدًا من البسمات.

 سرنا معًا تحت ظلال شجر الصفصاف، وكان شعاع الشمس الذهبي يتسلل في استحياء من بين أوراق الشجر؛ فيرسم على شعرها الأصفر تعاريج تجعله أكثر فتنة. 

 رحنا نتحدث في أمور كثيرة، حتى آذنت الشمس بالمغيب، وعند مفترق الطرق، هتفتُ بها في عتابٍ:

 - لم تخبريني ـ بعد ـ عن سبب حزنك وأساك.

 فغرتْ فاها دهشة، واستنكرت كلامي، ثم نفضتْ كفيها، وهي تقول:

 - ليس هناك ما يحزنني.

 ودعتها، وسرت في طريقي، بينما هي لا تزال في مكانها، تنفض كفيها، وتردد:

 - ليس هناك ما يحزنني.


google-playkhamsatmostaqltradent