recent
أخبار ساخنة

6 أكتوبر المجيد.. يوم غير وجه التاريخ وأعاد للأمة كرامتها BDF

 

6 أكتوبر المجيد.. يوم غير وجه التاريخ وأعاد للأمة كرامتها

6 أكتوبر المجيد.. يوم غير وجه التاريخ وأعاد للأمة كرامتها BDF


بقلم: حسن سليم

رئيس التحرير


في تاريخ الأمم لحظات فارقة، تتحول فيها إرادة الشعوب إلى طاقة لا تُقهر، وتصير الجغرافيا بكل صعوبتها مجرد تفصيلة في دفتر النصر. ومن بين هذه اللحظات، يظل السادس من أكتوبر 1973 يومًا استثنائيًا، لا لأنه انتصار عسكري وحسب، بل لأنه كان انتصارًا للوعي، للكرامة، وللإرادة الإنسانية حين تتجسد في أمة بأكملها.


لقد كتب المصريون في ذلك اليوم أعظم صفحات المجد، فهزموا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأثبتوا للعالم أن النصر لا يولد من العتاد وحده، بل من العقول المدربة، والقلوب المؤمنة، والإرادة الصلبة التي لا تعرف الانكسار.


لم تكن حرب أكتوبر مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين جيشين، بل كانت صراعًا بين روايتين: رواية الاحتلال والهيمنة، ورواية التحرير والكرامة. كان العالم وقتها يتابع المشهد وكأنه فيلم درامي تتغير أحداثه كل لحظة، إذ نجحت مصر في تحقيق ما كان يبدو مستحيلًا: عبور قناة السويس الحصينة، وتحطيم خط بارليف الذي وصفه الإسرائيليون بأنه "المانع الذي لا يُقهر".


هذا الانتصار لم يكن وليد لحظة، بل كان ثمرة سنوات طويلة من الصبر والإعداد، منذ هزيمة 1967 التي حاول العدو أن يجعلها جرحًا أبديًا في جسد الأمة. لكن مصر – بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات – حوّلت الجرح إلى حافز، والهزيمة إلى درس، واليأس إلى أمل لا ينطفئ.


قد يظن البعض أن انتصار أكتوبر كان مجرد استخدام ناجح للسلاح، لكنه في الحقيقة كان انتصارًا للعقل. فمصر لم تكن تملك نفس قدرات إسرائيل العسكرية المدعومة بالكامل من الولايات المتحدة والغرب، لكنها امتلكت ما هو أعظم: خطة خداع استراتيجي أذهلت أجهزة الاستخبارات في العالم كله.


لقد حسبت إسرائيل ومعها الـ CIA أن مصر لن تحارب، وأن التحركات المصرية ليست سوى تدريبات روتينية. ولم يدركوا أن هذه التدريبات كانت في الواقع مقدمة لأكبر عملية عسكرية في الشرق الأوسط الحديث. وهكذا أثبت المصريون أن الحرب ليست فقط معركة دبابات وطائرات، بل معركة عقول وذكاء وإرادة.


حين دقت الساعة الثانية ظهر السادس من أكتوبر، انطلقت صيحات "الله أكبر" من حناجر الجنود المصريين، لتتحول إلى زلزال اجتاح الضفة الشرقية للقناة. في لحظات قليلة، تحولت أسطورة خط بارليف إلى ركام، وعبرت قوات المشاة المصرية القناة بمعداتها في مشهد أبهر العالم.


لم يكن العبور مجرد عملية عسكرية، بل كان عبورًا نفسيًا وحضاريًا. فقد عبر المصريون من اليأس إلى الأمل، من الانكسار إلى الكرامة، ومن الانغلاق إلى الحلم الكبير باستعادة الأرض والعزة. كان ذلك اليوم هو اليوم الذي استعادت فيه الأمة العربية ثقتها بنفسها، وأدركت أن المستحيل مجرد كلمة في قاموس الضعفاء.


من يظن أن حرب أكتوبر كانت معركة جيش فقط يخطئ التقدير. لقد كانت حرب شعب بأكمله. كل بيت مصري كان جبهة دعم، كل عامل وفلاح وموظف كان جزءًا من المعركة. نساء مصر قدمن كل ما يملكن من دعم وصمود، وأطفالها كبروا على أنباء العبور وهم يرفعون أعلام النصر.


هذه الروح الشعبية هي ما جعل النصر حقيقة لا خيالًا. فالحروب لا تكسبها الجيوش وحدها، بل تكسبها الشعوب حين تؤمن بقضيتها وتدفع الغالي والرخيص في سبيلها.


لم يكن وقع النصر على إسرائيل مجرد هزيمة عسكرية، بل كان انهيارًا نفسيًا ومعنويًا. فقد بنيت "أسطورة الجيش الذي لا يُقهر" على مدى سنوات، وجاء المصريون ليكشفوا للعالم أن هذه الأسطورة ليست سوى وهم.


أما على الصعيد العالمي، فقد كان السادس من أكتوبر نقطة تحول في السياسة الدولية. فجأة أدركت الولايات المتحدة وأوروبا أن الشرق الأوسط لم يعد ساحة نفوذ سهلة، وأن مصر استعادت مكانتها كقوة إقليمية كبرى قادرة على تغيير موازين القوى.


لا يمكن الحديث عن نصر أكتوبر دون ذكر الرئيس أنور السادات، الذي قاد مصر في لحظة تاريخية فارقة. كان السادات يعرف أن الحرب ليست هدفًا في حد ذاتها، بل وسيلة لاستعادة الأرض وإجبار العالم على الاعتراف بالحقوق المشروعة.


برؤيته الثاقبة، جمع بين القوة العسكرية والحنكة السياسية، فاستطاع أن يحقق النصر على الأرض ثم يحوّله إلى ورقة تفاوضية أعادت لمصر أرضها كاملة، وفتحت الطريق أمام سلام عادل في المنطقة.


بعد مرور أكثر من خمسة عقود على حرب أكتوبر، لا يزال الدرس حاضرًا: لا شيء مستحيل أمام الشعوب التي تمتلك الإرادة. قد تواجه الأمة تحديات اقتصادية أو سياسية أو أمنية، لكن ما دام هناك إيمان بالقدرة على الصمود، فإن النصر سيظل ممكنًا.


إن أكتوبر ليس مجرد ذكرى تُحيى بالاحتفالات، بل هو مدرسة متجددة تعلمنا أن العدو مهما بدا قويًا، فإن الشعوب التي تدافع عن أرضها وكرامتها قادرة على قلب الموازين.


من اللافت أن نصر أكتوبر لم يقتصر تأثيره على مصر والعرب، بل أصبح جزءًا من الذاكرة العسكرية العالمية. ففي الأكاديميات الحربية من واشنطن إلى موسكو، يُدرّس العبور المصري باعتباره نموذجًا في التخطيط الاستراتيجي، والخداع العسكري، وحرب الإرادة.


لقد كتبت مصر في أكتوبر درسًا عالميًا: أن النصر لا يُقاس فقط بما تملكه من عتاد، بل بما تملكه من إيمان بعدالة قضيتك، ومن استعداد للتضحية حتى النهاية.


إن انتصار أكتوبر المجيد ليس مجرد تاريخ نحتفل به كل عام، بل هو روح تتجدد في وجدان المصريين. هو برهان حي على أن هذه الأمة، مهما تعثرت، قادرة على النهوض من جديد.


لقد كان السادس من أكتوبر 1973 يومًا استعاد فيه المصريون أرضهم وكرامتهم، لكنه أيضًا كان يومًا استعاد فيه العرب ثقتهم بأنفسهم، وأدرك العالم أن هذه الأمة لا تُهزم.


وسيظل هذا النصر شاهدًا على أن مصر دولة عظيمة، صنعت تاريخًا بدماء أبنائها، وكتبت ملحمة خالدة في سجل البشرية.




google-playkhamsatmostaqltradent