إمكانية تحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات العربية آفاق وتحديات"
بقلم د. أيمن عيسى
رئيس المنتدي العربي الأفريقي
تمثل التنمية المستدامة، بمحاورها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتكاملة، الإطار الأمثل لضمان الرفاهية للأجيال الحالية والقادمة. تسعى الدول العربية جاهدة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر (SDGs) التي اعتمدتها الأمم المتحدة بحلول عام 2030، ولكن مسيرتها محفوفة بالفرص الواعدة والتحديات المعقدة والمترابطة.
التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمعات العربية
تتباين التحديات من دولة لأخرى، لكن يمكن إجمال أبرزها في عدة مستويات:
أولاً: التحديات الاجتماعية والاقتصادية
الفقر وعدم المساواة:
على الرغم من الثروات في بعض الدول، لا تزال معدلات الفقر والبطالة، خاصة بين الشباب، مرتفعة في العديد من المجتمعات، مما يعيق تحقيق الهدف الأول (القضاء على الفقر) والهدف الثامن (العمل اللائق والنمو الاقتصادي).
النمو السكاني السريع:
تشهد المنطقة معدلات نمو سكاني مرتفعة، مما يضع ضغطاً هائلاً على الموارد المتاحة والخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان، ويجعل تحقيق الاستدامة أمراً أكثر صعوبة.
الأزمات وعدم الاستقرار:
النزاعات المسلحة والاضطرابات السياسية في بعض الدول العربية تؤدي إلى تدمير البنى التحتية، ونزوح الملايين، وتوقف عجلة التنمية، مما يمثل عائقاً كبيراً أمام تحقيق الهدف السادس عشر (السلام والعدل والمؤسسات القوية).
ثانياً: التحديات البيئية والمائية
ندرة المياه والإجهاد المائي:
تُعد المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم جفافاً. يمثل الجفاف والتصحر ونقص مياه الري والشرب كماً ونوعاً تحديات إيكولوجية كبرى تهدد الأمن الغذائي وتحقيق الهدف السادس (المياه النظيفة والنظافة الصحية).
تغير المناخ والتدهور البيئي:
ارتفاع درجات الحرارة، تزايد التصحر، وتدهور التنوع الحيوي، كلها عوامل تزيد من استنزاف الموارد الطبيعية وتلوث البيئة (الهدف الثالث عشر والهدف الخامس عشر).
الآفاق والإمكانات نحو الاستدامة
على الرغم من التحديات، تمتلك الدول العربية مقومات هائلة يمكن استغلالها لتحقيق التنمية المستدامة:
الرأسمال البشري والطاقة الشبابية:
تتمتع المنطقة بنسبة كبيرة من الشباب المتعلم القادر على الإبداع والابتكار، شريطة الاستثمار في تعليمهم وتدريبهم وتوفير فرص العمل اللائق.
الطاقة المتجددة:
تتميز المنطقة بمستويات عالية من الإشعاع الشمسي ومواقع ممتازة لطاقة الرياح، مما يوفر إمكانية كبيرة لتنويع مزيج الطاقة والتحول نحو مصادر نظيفة وبأسعار معقولة (الهدف السابع).
الإصلاحات المؤسسية والحوكمة:
بدأت العديد من الدول في تبني أطر سياسات متكاملة، وإعادة تعريف أدوار المؤسسات الحكومية، وتعزيز الحوكمة، كركيزة أساسية لضمان التنفيذ الفعّال.
"الحالة المصرية كنموذج (رؤية مصر 2030)"
تُعد تجربة مصر في إطار "رؤية مصر 2030" مثالاً واضحاً للجهود المبذولة لدمج أهداف التنمية المستدامة ضمن الاستراتيجيات الوطنية. وقد شهدت مصر تحسناً ملحوظاً في بعض المؤشرات:
* الصحة والرفاه (الهدف 3): تحسن في معدلات وفيات الأمهات والمواليد والأطفال دون سن الخامسة، مما يعكس التقدم في التغطية الصحية.
* الطاقة النظيفة (الهدف 7): إطلاق مبادرات استراتيجية لتنويع مصادر الطاقة، أبرزها الاستثمار في مشاريع عملاقة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والعمل على توفير التكنولوجيا المستدامة مثل العدادات الذكية.
* المياه النظيفة (الهدف 6): تحسن في مؤشرات نسبة السكان الذين يحصلون على مياه شرب وخدمات صرف صحي أساسية.
* مدن ومجتمعات محلية مستدامة (الهدف 11): توجّه نحو التنمية العمرانية المستدامة وإنشاء مدن جديدة.
التحديات في الحالة المصرية: رغم التقدم، لا تزال هناك تحديات كبرى، خاصة في قطاع التعليم الجيد (الهدف 4) وتحدي الزيادة السكانية المستمرة التي تضغط على الموارد الطبيعية والبنية التحتية، بالإضافة إلى الحاجة إلى ردم الفجوة بين السياسات الموضوعة والتنفيذ الفعّال على المستوى المحلي.
الخلاصة
إن تحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات العربية يمثل سباقاً مع الزمن في ظل تحديات هيكلية معقدة، أبرزها هشاشة الأوضاع السياسية، والإجهاد المائي، والضغط السكاني. ومع ذلك، فإن الإرادة السياسية المتنامية، والاستثمار في الطاقات المتجددة، والتركيز على بناء الرأسمال البشري، تمثل آفاقاً حقيقية لقلب هذه التحديات إلى فرص. يتطلب النجاح النهائي إصلاحات مؤسسية عميقة، وتعزيز الشفافية، والشراكة الفعّالة بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لضمان أن تكون مسيرة التنمية شاملة ومنصفة وتلبي احتياجات الجميع دون استنزاف حقوق الأجيال القادمة.
