recent
أخبار ساخنة

حسن سليم يكتب: المشهد الأخير للأخلاق

 

حسن سليم يكتب: المشهد الأخير للأخلاق


حسن سليم يكتب: المشهد الأخير للأخلاق


لم يعد الجدل الدائر في الفضاء العام يدور حول الوقائع بقدر ما أصبح صراعًا مفتوحًا على المعاني.. مشاهد قليلة، عابرة في ظاهرها، كفيلة بأن تكشف شقوقا عميقة في البناء القيمي للمجتمع، وتفضح حجم الارتباك الذي نعيشه في تعريف الاحترام، وحدود الحرية، ومكانة الكبير، وطبيعة العلاقة بين الفرد والمجال المشترك.


في أحد المرافق العامة التي يفترض أنها مرآة للسلوك الجمعي، انفجرت حالة من التوتر بين جيلين، لا بسبب اعتداء مادي أو انتهاك جسدي، بل بسبب تصادم رؤيتين للحياة.. رؤية تشكلت في زمن كانت فيه القيم تكتسب بالمشاهدة والمعايشة، وأخرى ولدت في عصر تصاغ فيه المواقف على عجل، وتستمد المرجعيات من شاشات لا تعرف السياق ولا تعترف بالخصوصية الثقافية.


القضية، في جوهرها، ليست هيئة جسد ولا طريقة جلوس، كما يحاول البعض تبسيطها أو تسطيحها، وإنما سؤال أعمق، هو ماذا تبقى من الذوق العام؟ ومن يملك حق حمايته؟ وهل أصبح المجال المشترك بلا ضوابط، أم أن الضوابط ذاتها صارت موضع سخرية واتهام؟


لقد اعتدنا، عبر عقود طويلة، أن يكون الفضاء العام امتدادا أخلاقيا للبيت.. ما لا يستساغ داخل الأسرة، لا يستباح خارجه.. وما كان يضبط بالحياء، لا يحتاج إلى لافتة قانونية.. لكن هذا الخيط الرفيع انقطع تدريجيًا، ومعه تلاشت فكرة أن الأماكن المشتركة لها أعراف غير مكتوبة، تحكمها اعتبارات السن، والخصوصية، والتجاور الإنساني.


اللافت أن الانقسام المجتمعي لم ينشأ حول الفعل ذاته، بل حول رد الفعل.. بين من رأى في الاعتراض تعديًا، ومن اعتبره بقايا وعي أخلاقي يوشك على الانقراض.. وبين هذا وذاك، غاب السؤال الأهم، وهو لماذا وصلنا إلى هذه الدرجة من التوتر، بحيث أصبح التنبيه جريمة، واللامبالاة فضيلة، والوقاحة حقًا مكتسبًا؟


إن الأزمة الأخلاقية التي نلمسها اليوم لم تولد في عربة نقل عام، بل خرجت من بيوت فقدت قدرتها على إنتاج القدوة.. وهنا يفرض نفسه الربط الضروري بين ما نراه في الشارع، وما تراكم داخل الأسرة خلال السنوات الأخيرة، في ظل تفكك متسارع، وتغيرات قانونية واجتماعية لم تصاحبها مراجعة ثقافية أو حوار مجتمعي جاد.


قانون الأحوال الشخصية، في صورته الراهنة، لم يعد مجرد نصوص تنظم الزواج والطلاق، بل أصبح عاملا مؤثرا في إعادة تشكيل العلاقات داخل الأسرة.. فقد تهشمت سلطة الأبوة تماما، وحين تدار الخلافات بمنطق الغلبة لا التوازن، يخرج إلى المجتمع أفراد لا يعرفون معنى الاحتواء، ولا يتقنون لغة الاحترام المتبادل.


فالأسرة المفككة لا تنتج فقط أبناءً متألمين، بل تفرز أفرادًا مرتبكين في علاقتهم بالآخر.. لا يعترفون بالمسافة الرمزية بين الأجيال، ولا يفهمون قيمة التنازل الصغير حفاظًا على السلم العام.. وهكذا، يتحول أي تنبيه إلى إهانة، وأي اختلاف إلى معركة، وأي رأي مخالف إلى تهديد للحرية الشخصية.


المفارقة المؤلمة أن خطاب الحريات، الذي يرفع في مثل هذه الوقائع، يُستدعى مبتورا، منزوعا من سياقه الفلسفي.. فالحرية في جوهرها ليست استعراضا للذات، بل مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون حقا قانونيا.. الحرية التي لا تراعي مشاعر الآخرين، ولا تحترم السياق العام، ولا تعترف بخصوصية المكان، تتحول إلى فوضى مغلفة بالشعارات.


وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن بعض الأصوات التي تدافع عن القيم التقليدية تقع أحيانا في فخ التعميم أو الحدة، وهو ما يمنح الطرف الآخر فرصة للانقضاض.. غير أن الخطأ في الأسلوب لا يسقط جوهر الفكرة.. فالمجتمع الذي يفقد احترامه لكباره، يفقد توازنه قبل أن يفقد تاريخه.


لقد كان كبار السن، في الثقافة المصرية، خزائن خبرة، لا عبئا على المشهد.. حضورهم كان يفرض نوعا من الانضباط الصامت، لا خوفا، بل تقديرا.. وحين يصبح وجودهم محل سخرية أو تجاهل، فإننا لا نسيء إليهم بقدر ما نعلن إفلاسنا القيمي.


إن ما نحتاجه اليوم ليس محاكمات شعبية على مواقع التواصل، ولا تصنيفات أخلاقية متعجلة، بل نقاش جاد يعيد تعريف العلاقة بين القانون والأخلاق، بين الحرية والذوق، بين الفرد والجماعة.. نحتاج إلى قانون أحوال شخصية يعيد للأسرة دورها التربوي، لا أن يختزلها في ساحة صراع قانوني.. وإلى خطاب ثقافي يعلم الأجيال أن الاحترام ليس قيدا، بل رقيا.


ما جرى في ذلك المشهد العابر ليس إلا عرضًا لمرض أعمق.. مرض عنوانه غياب المرجعية، وتآكل القدوة، وخلط المفاهيم.. وإذا لم نتدارك الأمر، فسنجد أنفسنا بعد سنوات أمام مجتمع لا يختلف أفراده على الأفعال، بل على تعريف الصواب ذاته.


في النهاية، لا يتعلق الأمر بمن كان على حق في واقعة بعينها، بل بسؤال أكبر: أي مجتمع نريد؟ مجتمعًا تحكمه لافتات المنع، أم ضميرا جمعيا حيا؟ الإجابة لا تُكتب في التعليقات، بل تصاغ في البيوت، وتُربى في القلوب، وتُحمى بقانون عادل، وأخلاق لا تخجل من نفسها.


google-playkhamsatmostaqltradent