recent
أخبار ساخنة

عُرْيُ الكلمةِ BDF

 

عُرْيُ الكلمةِ

عُرْيُ الكلمةِ BDF


بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي

هل يمكن للكلمة أن تصبح عورة؟ أن تتكشف سافرة عن سوأتها في وضح نهار؟ أن تخرج سافرة، دون حياء؟ هل للكلمة أن تنفك عن الأخلاق، وتضل وتذهب شاردة في الغي والسوء وفي الطغيان؟


حين تتعرى المرأة عن بعض مفاتنها تصبح عورة، ويكون ما يبدو منها سوأة يجب أن تنهض في الحال وتسترها. وكذلك حين تتعرى الكلمة وتظهر سوأة تلك الكلمة حينها تصبح تلك الكلمة عورة، تصم قائلها بالصغار والهوان، وتنحدر به إلى أحط درجة في الدونية، بما لحقه من خزي وعار.


ولهذا قالوا: "لسانك حصانك إن صنته صانك، وإن أهنته أهانك". وقالها الذي لا ينطق عن الهوى: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".


أرأيتم ذلك المصير المشئوم الذي ينتظر مَن يترك العنان للسانه، ويطلقه بلا قيد أو يُحكم زمامه ويلجمه.


متى تكون الكلمة عورة؟ سؤال يتفجر؛ كي يحدث شرخًا في أديم الكلمات، كي يعلو دويه، فننتبه من غفلتنا، ونفيق قبل أن يهوى بنا الندم في بئر سحيق.


هل تدري ماهية الكلمة؟ ليست الكلمة من حروف صماء، أو جامدة، وليست كما نظنها ميتة. إن للحرف دبيبًا شأنه شأن كل مخلوق، وإن كان وقعه أشد، ونصله أحدّ، وعاقبته إن زلت بك الكلمات، حتمًا وخيمة.


الكلمة لو تدري، حية رقطاء، وإن شئت، فهي قطرات من عسل مصفى. الكلمة سلاح ذو حدين، قل مَن ينج من وخز الكلمة أو طعن الكلمات. الكلمة عنوانُ قائلها؛ عنوان ثقافته وبيئته، تشي بمبلغ علمه ومعرفته أو جهله وسفهه، تعلن في غير خفاء عن عقل واعٍ وحكيم، أو عقل خاوٍ أهمله صاحبه، حتى صدئ من طول الإهمال. الكلمة مفتاح إما أن تلج بها باب الخير، وإما أن تستفتح بها أبواب الشر.


الكلمة كائن حي، إن شئت أحياك، حتى بعد أن تبلى، تبقى سيرتك العطرة بين الناس، وإن شئت أرداك وأهلكك، وحصدت ثمار الكلمة شوكًا يدميك بلا رحمة؛ فلم ترحم أحدًا حين نفثت حمم الكلمات، فكيف يرحمك هذا الكلم الخبيث؟


الكلمة سر مكنون تملكه وحدك، شريطة أن تبقى حبيسة، لم تطلقها من فيك، فإذا خرجت ملكتك الكلمة واقتادتك لمصير حتمًا مجهولٍ.  


ما أخطر الكلمة حيت يتفوه بها صاحبها في عجلة دون روية، ودون تروٍّ، دون معالجة، ودون تمحيص، ودون أن يجريها على موازين عدة! ولله در الشاعر "صالح بن عبد القدوس:


(وزنِ الكلامَ إذا نطقتَ فإنما       يُبدي عيوبَ ذوي العقولِ المنطقُ)

فهلا أجريت كلمتك على ميزان الصدق، فقد تنطق بها كذبًا، أو من أجل أن تمزح وتضحك جلساءك، فتؤاخذ بها. وقد تشهد بها زورًا، فتضيع بكلمتك الحقوق، وبها يقتاد الأبرياء إلى ظلمات السجون، وقد تسعى بها بين الناس؛ فتكون كلمتك سببًا في هدم البيوت، وتفريق الأزواج، وتشريد الأبناء، وقطيعة الأرحام، وضياع الحقوق. وهنا تصبح كلمتك عارية عن كل خير، بل تحمل داخلها بذور الشقاق والغدر والنفاق. وهذه بعض جرائم انفلات اللسان، وهي لا تقل خطورة عن جرائم السرقة والقتل والعدوان، فعدوان اللسان ـ بلا شك ـ أشد وأبشع.


والبعض يتقوى بلسانه، فلسانه حاد كالمبرد، يأخذ حقه ويستولي على حقك بلسانه، قد يلجئك إلى التنازل عن حقك أو بعض حقك، خشية الوقوع تحت سياط لسانه، فاستجلب بذلك لعنات الناس.


والبعض يتاجر بلسانه، يبيع الوهم للناس، ويخدعهم بمعسول القول، كي يستولى على أموالهم. وقد تبلغ الخسة بتجار الكلمة، أن يتاجرون في الدين، ويخوضون في الباطل، ويقعون في الأعراض. وينحدر البعض أكثر حين يغرر بالعفيفات بمعسول الكلام، وهذا الغرر سيان فيه الرجل والمرأة. فكم من امرأة كانت سببًا في هدم بيت؛ كي تبني لنفسها بيتًا على أنقاض بيت ضرتها! وكم وكم، مآسٍ لا تحصى، سببها في الأصل كان الكلمة.


وهناك اللسان الأعمى، لا تدري أيهما الأعمى، هو أو صاحبه، فهذا يتخبط بلسانه، تَلكُمك كلماتُه، تجرح مشاعرك، تؤذي آدميتك، تخدش حياء المرأة، لا يعرف صاحبها خلقًا ولا يحسن أدبًا ولا يرعى الحال، ولا يحسن المقال.


الكلمة حين أحدثك بها سر، فلا تفشي سر الكلمات. الكلمة حين تثمنها وتقرر أن تعتقها من فيك، فهي شرفك، فاحذر أن يدنس شرفُك.


استر كلماتك، كي تُستر؛ فالكلمة عورة تتكشف معها كل العورات، فاستر عوراتك بأن تستر عورة فيك، فلا يخرج من فيك إلا الكلم الطيب. واجعل كلماتك دومًا تبني ولا تهدم، تصلح ولا تفسد، اجعلها ذخرًا في ميزانك، يوم تأتي تلك الكلمات جبالًا فاختر أين تكون، فمصيرك مرهون بالكلمة. وسعادتك في الدراين، معقودة حتمًا بالكلمة. ما أنت إلا كلمة.


google-playkhamsatmostaqltradent