ما بين الحلم والواقع BDF
بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي
ما بين الحلم والواقع، بون شاسع، مسافة تتجاوز الأفق، وتباعُد أكبر مما بين المشرق والمغرب، وكأني بالحلم يقف على أحد طرفي المجرة، والواقع على الطرف المقابل له.
الحلم كبير، لأنه خيال، وهو غير واقعي وغير ملموس؛ نسمح فيه لعقولنا أن تسبح في بحر لجيٍّ وبلا ساحل، من الأحلام والرؤى والأماني. الأحلام فيه تتجاوز الواقع إلى الخيال، والمعقولَ إلى اللامعقول، والممكن إلى المستحيل، والقريب إلى المتناهي في البُعد، لا حد فيه للحُلم، ولا نهاية فيه للخيال.
الخيال والحلم قرينان لا يفترقان، فبينما الحلم يمتد بأذرعه إلى المستقبل، فإن الخيال يمهد له الطريق ويوسع له المسافات إلى آفاق بعيدة ولا نهائية. لا يقف شيء في وجه الخيال، ولا يحد شيء من سير الأحلام وتحليقها في الآفاق وتجاوزها للممكن والواقع بل وتجاوزهما للمدى طولًا وعرضًا وارتفاعًا وعمقًا.
ويعد الخيال والحلم ركيزتان أساسيتان يتكئ عليهما الواقع، وبينهما وبين الواقع قنطرة عبور، تسمح لهما بالانتقال المشروع إلى أرض الواقع؛ تلك القنطرة هي البحث والتجريب والمحاولة والتكرار، ولا تعرف تلك المحاولات الفشل؛ فما الفشل إلا مؤشر وإخبار أن عبور هذه الطريق لا يوصل للغاية، وأن تجربة هذا الأمر لا يحقق المطلوب، وهذا ما يسمح لنا أن نجرب طريقة مختلفة، ونسلك دروبًا أخرى، ونعدل في المدخلات، مع الإيمان بجدوى ما نقوم به وفاعليته وأثره الإيجابي. فالواقع ـ كما ترى ـ لا يأتي من لا شيء، ولا يتخلق من عدم، فكثير من إنجازات الحاضر كانت أحلامًا في الماضي، وخيالاتٍ في عقول البعض، وتصوراتٍ في مخيلتهم وحدهم، وكذلك كثير من براءات الاختراع كانت مجرد تصورات وخيالات لا تمت للواقع بأدنى صلة، ولكن بالإصرار على الحُلم، تحول إلى واقع، وبالمثابرة، أمسى الخيال حقيقة، وبالإيمان به أصبح ملموسًا وقائمًا بيننا.
إنَّ الواقع يقف على أرض صلبة وثابتة، وينهض على أسباب واقعية وممكنة، ويتفاعل مع عناصر فعالة ومدروسة وملموسة.
دائما الواقع أجمل، حتى لو كان أقل من الحلم بكثير، وأصغر منه بمراحل. لكنَّ وجود الشيء رهنٌ بالشعور به وإدراكهُ كفيلٌ بالتعايش معه والتوغل فيه.
فعندما يتحقق جزء من الحُلم، ويتحول هذا الجزء البسيط لواقع حي وملموس، تغمرنا سعادة لا حصر لها، أكبر من فرحتنا بالحلم وهو مجرد خيال. إنَّ الفرح بما ننجزه من أحلامنا ولو كان شيئًا بسيط أكبر بكثير من فرحتنا به وهو مجرد حُلم وخيوطٍ ننسجها من الخيال، وبناءٍ نشيده من تصورات لا وجود لها.
لكن هل لأن الواقع أجمل وأشد وقعًا في النفس وأبعد أثرًا، يسوغ لنا ذلك أن نهمل الخيال، ونهجر الأحلام، ونكتفي بالواقع وفقط. إن هذا محض هراء ولا طائل من ورائه إلا مزيدًا من الجمود والتخلف والجفاء.
وكذلك الاكتفاء بالخيال، والتعايش مع الأحلام، دون تجاوزهما إلى الواقع، ودون تحويلهما إلى منجز ملموس، لهو خطر على النفس، يصيبها بالعزلة، ومجافاة الواقع، والقعود عن التفاعل مع الغير، فلابد من تلاحمهما معًا، وتآزرهما دومًا؛ لنشوء نفسٍ سوية، وحياة مستقيمة، وإنجازات ملموسة.
إننا نستثمر في الواقع والممكن، وننشئ معامل ومختبرات، ونحدد لها ميزانية، وننفق ببذخ على التصنيع وإعادة التدوير، في حين أننا لا نفعل نفس الشيء مع الإبداع، ولا نثمن أثر الخيال وأهمية الأحلام، ولا نستثمر فيهما، بل نجد من يسفه منهما ضاربًا بهما عُرض الحائط.
إننا في حاجة إلى إنشاء مراكز للخيال، وأندية للأحلام، ومؤسسات ترعى الإبداع والابتكار، وإنشاء أسواق لبيع تلك الأفكار المبتكرة، والخيالات المبتدعة، والأحلام المستحيلة، وتحويلها إلى منجز وواقع ملموس.
إن تنمية الإبداع لدى الناشئة لهو خليق أن يطور من ملكاتهم، وأن يسهم في سرعة نموهم الذهني والعقلي، مما يسهم في تغيير الواقع، وإكسابه لونًا مشرقًا وضاءً.
