البلاغة العربية تاريخ وتطور BDF
بقلم الدكتور. طارق عتريس أبو حطب
عضو هيئة التدريس بالازهر الشريف
البلاغة العربية هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته وهي أحد أبرز مفاخر تراثنا الثقافي، إذ تمثل الفن الذي جمع بين قوة اللغة وروعة البيان والتصوير وقد ارتبطت نشأتها بتاريخ العرب الفكري والأدبي حيث تفجرت ينابيعها أولاً من الفطرة والسليقة قبل أن تتحول إلى علم قائم بذاته
فهي ليست مجرد أداة للتعبير عن المعاني في ثوب قشيب وإنما هي صورة لروح الثقافة العربية ومرآة لعلاقتها بالنص القرآني، والشعر، والنثر ولما كان العرب أهل فصاحة وبيان منذ الجاهلية، فقد هيّأت بيئتهم اللغوية أرضية خصبة لولادة علم البلاغة وتطوره ويسعى الكاتب إلى فتح نافذة على نشأة البلاغة العربية وتفاعلها مع القرآن الكريم، وتطورها في ظل الحضارة الإسلامية، حتى وصلت إلى ذروتها على أيدي كبار علماء النقد والبلاغة وقد كانت حاضرة في حياة العرب بوصفها ملكة فطرية. فقد كان العربي يتذوق الكلمة ويستحسنها أو يستهجنها بميزان الذوق والسليقة. وكان الشعر والخطابة وسيلتين أساسيتين للتعبير عن المعاني، ومن خلالهما ظهرت ملامح البلاغة الأولى إذ كان الشاعر الجاهلي يختار ألفاظه بعناية ليصور الصحراء، والرحلة، والفخر، والهجاء، والمديح. وفي خطبهم، كانوا يراعون الإيجاز حين يقتضي المقام، والإطناب حين يستدعي الموقف التفصيل ومن هنا يمكن القول إن العرب عرفوا البلاغة ممارسةً قبل أن يعرفوها تنظيراً
وكانت الأسواق الأدبية ساحات للمفاضلة بين الشعراء والخطباء، حيث يُعرض القول على الذائقة العامة، فيُقرّ له بالجودة أو يُردّ بالضعف وهذا سوى ضرب من النقد البلاغي المبكر، وإن لم يكن يحمل طابع العلم المنهجي ثم جاء الإسلام بحدث فارقا في مسيرة اللغة والبلاغة معاً فقد تحدّى العرب ببيانه المعجز وجعل البلاغة معياراً للتفرقة بين كلام البشر والتنزيل الإلهي ولذا كانت الحاجة ماسّة إلى التعمق في دراسة النص القرآني من جوانب نظمه وأسلوبه وطرائق تعبيره فأيقظ القرآن ذائقة العرب البلاغية ودفعهم للتأمل في سرّ إعجازه من جهة اللفظ والنظم والمعاني المبتكرة ومن هنا بدأت البذور الأولى للدرس البلاغي القرآني فأصبحت دراسة التشبيه والاستعارة، والتقديم والتأخير، والفاصلة القرآنية، وسائل لفهم القرآن وإبراز إعجازه ولعل مما أحدث في البلاغة العربية مادة خصبة للدرس والتحليل كون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين نماذج معجزة في البلاغة والبيان حيث حوت إحاديث الرسول وخطبه وأقواله فنونا من ضروب القول وأفنان البيان ومع اتساع الدولة الإسلامية، واحتكاك العرب بأمم أخرى وثقافات باتت الحاجة إلى وضع قواعد تضبط مقاييس اللغة وتحفظ فصاحتها. فظهر علم النحو على يد أبي الأسود الدؤلي وتلامذته مما عبد الطريق لعلم البلاغة فالنحو يُعنى بصحة التركيب، والبلاغة تبحث في جمال التركيب وملاءمته للمقام وفي العصر الأموي، نشطت البلاغة في الخطابة السياسية والدينية لكن ظل الدرس النظري محدوداً ومع بدايات العصر العباسي صرقت الأنظار إلى التأصيل والتقعيد، فظهر الجاحظ ت 255هـ الذي يُعدّ من أوائل من وضعوا اللبنات الأولى للبلاغة في كتابه الشهير البيان والتبيين فقد رسم ملامح عامة لفن البيان، وأكد على قيمة اللفظ والمعنى، والتناسب بينهما، وضرورة مراعاة مقتضى الحال ومع بزوغ القرن الرابع الهجري، بدأت البلاغة العربية تأخذ شكلها العلمي فكتب قدامة بن جعفر ت 337هـ كتابه نقد الشعر الذي تناول فيه محاور مهمة كاللفظ والمعنى والوزن والقافية وأسس مبدأ المطابقة بينهما فكانت إشاراته البلاغية فتحا جديداً للفكر النقدي ثم جاء أبو هلال العسكري ت 395هـ صاحب الصناعتين النظم والنثر فكان من أوائل من بلوروا مفاهيم البلاغة بشكل منظم ومع القرنين الخامس والسادس الهجريين سطع العصر الذهبي للبلاغة العربية بظهور أعلام رسخوا أركان علم البلاغة فأقبل حجر الزاوية عبد القاهر الجرجاني ت 471هـ بكتابيه أسرلر البلاغة ودلائل الإعجاز وضع نظرية النظم التي تُرجع الإعجاز البلاغي إلى طريقة ترتيب الألفاظ بحسب المعاني ومن بعده صاحب مفتاح العلوم السكاكي ت 626هـ الذي قسم للبلاغة إلى علوم ثلاثة المعاني والبيان والبديع قأصبح الأساس الذي تدرس به البلاغة حتى اليوم وجاء من بعده الزمخشري صاحب الكشاف في التفسير 538هـ فأبرز البلاغة القرآنية في أبهى صورها
ثم دخلت مرحلة من الشرح والتلخيص، خصوصاً في عصور الانحطاط. فصار الدرس البلاغي أقرب إلى الاستظهار والقياس الجاف، منصرفا عن روح الإبداع إلى أن عاد الاهتمام بالبلاغة مع النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر حيث عاود رواد النهضة النظر في التراث البلاغي، فظهرت محاولات لربط البلاغة بالأسلوبية الحديثة والنقد الأدبي كما فعل أمين الخولي، ومحمد عبد المطلب، وغيرهما واليوم لم تعد البلاغة علماً تقليدياً يُدرّس في قوالب جامدة فحسب، بل باتت جزءاً من علوم الاتصال والإعلام، وتحليل الخطاب، والدراسات النقدية المعاصرة ومع اعتنائها بجماليات اللغة إلا أنها تفتح الباب لفهم آليات الإقناع والتأثير في عصر الإعلام الرقمي فالبلاغة التي بدأت ممارسة فطرية في الجاهلية قد تحولت مع الزمن إلى علم ترسخت مناهجه ثم أعيدت قراءته في ضوء متطلبات العصر الحديث لتحكي البلاغة العربية
قصة حضارية ممتدة، تعكس عبقرية اللغة العربية وثراءها مؤكدة عبقرية الفكر العربي القادر على مواكبة التطورات والنظريات الحديثة مما يدفعنا لنؤكد حقيقة جلية خلاصتها أن الحاجة إليها اليوم أشد مما مضى فقد صارت الكلمة سلاحاً ماضيا يغير موازين القوى، وصار البيان تزيينا للباطل وتأرجحت الدلالات بين الغث والسمين.
