recent
أخبار ساخنة

ظاهرة التناص في الشعر العربي

ظاهرة التناص في الشعر العربي

 

ظاهرة التناص في الشعر العربي


بقلم د. طارق عتريس أبو حطب

عضو هيئة التدريس بالأزهر

من أتون التجربة والمعاناة ومن رحم الإبداع  يولد الشعر نفحة من السحر الحلال تبث الروح في القصيدة خلودا ووهجا يأتلق فيها صدى القديم معانقا همس الجديد في تناغم مطرب عجيب لتصبح ساحات القصائد ميدانا خصبا للتفاعل الذي يؤتي أكله حضورا خفيا للنصوص داخل نص واحد مكونا جسرا ممتدا عبر الأزمنة يربط بين ما قيل وما يقال بين الحداثة والتراث مولدا ظاهرة فريدة اصطلح على تعريفها بظاهرة "التناص" التي تجعل من القصيدة العربية نغمة انتظمت في لحن عبقري امتد بزوغه من فجر الماضي يرتسم فيه صدى الأسلاف كما يومض صوت الأخلاف فالشعراء لا يبدعون غثاء في فضاء إنما يسكبون مواجدهم على جبين سطور خضبتها من قبل محابر السابقين ومدامعهم وما التناص إلا استدعاء نص لنص سابق اقتباسا أو محاورة أوتطويرا أ ومعارضة أو هو على حسب ما أوردته الناقدة الأدبية الفرنسية ذات الأصل البلغاري julia Kristeva في الستينيات ".


تفاعل النصوص في فضاء نص واحد "فكل نص أدبي يحمل بداخله أثارة من نصوص أخرى والتناص بهذا التعريف يعني عملية إبداعية مركّبة تُعيد صياغة المعانى في اتساق جديد.

وبعيدا عن هذه التصورات فقد مارس العرب التناص قبل أن يولد المصطلح حيا بل إننا نجد القرآن نفسه تضمن إشارات تراثية لقصص وموروث الأمم السابقة معيدا صياغتها بما يتناسب وقدسية التنزيل العظيم ثم نهج الشعراء النهج ذاته مستلهمين بعضهم بعضا متبادلين التأثير والتأثر وللوهلة الأولى فإن من يقرأ الشعر العربي في عصوره المختلفة، يلمح خيوط التناص متشابكةً في نسيج القصيدة منذ الجاهلية فقد انبرى الجاهليون في التناص مع بعضهم  حين كان شعراء العصر الجاهلي يتناصّون مع بعضهم خيالا ومعنى وروحا ولفظا فهذا امرؤ القيس يؤسس تناصا جماعيا يعرف بالوقوف على الأطلال ظل نمطا ثابتا يتردد في أشعار النابغة الذيياني وعنترة وزهير ولبيد وابن حلزة وعيرهم ثم تجلى التناص مع بزوغ فجر صدر الإسلام حيث استدعى شعراء المدائح النبوية في مقدمتهم حسان وكعب وابن رواحة نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي في إطار من الجلال والهيبة الروحية وكذلك الحال زمن بني أمية حتى إشراقة دولة بني العباس  حين تنوعت مصادر الثقافة والإلهام فبلغ التناص ذروة حضوره حين استدعى الشاعر العباسي التاريخ والفلسفة والحكمة والأسطورة معيدا حبكها ونسجها كما يتضح جليا في شعر المتنبي الذي حاور ابن كلثوم وامرأ القيس وطرفة فاتحا من جديد نوافذ مضيئة في جدران الموروث القديم مستوحيا الأسلوب القرآني في تناسق بديع حريصا على إضفاء طابعه الشخصي على ختام قصيده فتناص لاحقوه معه كما فعل هو مع سابقيه وحين تطأ أقدامنا العصر الحديث  نجد عودة التناص أكثر جرأة ونضجا فقد اعتمد رواد النهضة من أمثال البارودي وأحمد شوقي روح الأوائل وهاموا بخيالاتهم خاصة في المعارضات كما يتضح عند شوقي في مدائحه النبوية وكذلك اتكأت القصيدة الحداثية خاصة عند بدر شاكر السياب وأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفاروق جويدة وغيرهم على استقراء واسع للتراث كمعين لا ينضب ففي قصيدة أشواق المطر يستلهم السياب الرموز المسيحية والأساطير السومرية والنصوص القرآنية في تناص متتابع ليصوغ صورة حية للإنسان العربي الباحث عن أمل للخلاص ويتبع أدونيس الخطى نفسها مستلهما المصطلح الصوفي تناصا مع نصوص المتصوفة وفلسفاتهم كوسيلة لإعادة صياغة التاريخ الشعري العربي حتى يصل التناص ذروته عند محمود درويش فيجعل من استدعاء الموروث رموزا لصمود المقاومة

فهو حين يستدعي الأندلس والمسيح ومجنون ليلى لا يستعيد الماضي بل يستعرض قضية البطولة والمقاومة وتطالع نزار قباني فتستكشف في جلاء هذا التناص المفعم بالرقة مع

  مفردات القرآن الحكيم والمعجم العربي في ثوب مزركش قشيب يمزج بين عبقرية الفصحى وجمال التصوير المحسوس  مضفيا سمت المعاصرة الذي يتمكن من وجدان وذائقة إنسان العصر الحاضر ويجدر بنا أن نؤكد أن التناص ليس محض تكرار يجتر فيه الشاعر ما لا يغني ولا يسمن إنما هو إبداع راق نابع من وعي عميق لقيمة الموروث وأصالة الملكات العربية فالشاعر ليس لصا يقتطف الإبداع نهبا أولسانا يردد ما قيل قبله بل مبدع يضفي بإنتاجه الشعري ظلالا جديدة من الإلهام والعمق فليس التناص استحضارا  للماضي إنما هو قراءة للتراث بلسان جديد وسيظل التناصّ نغما رتيبا متتابعا في نشيد الشعر العربي يمزج أوتار الماضي بألحان الخداثة وسيبقى شاهدا حيا على أن الألفاظ والمعاني خالدة  لا تموت بل تُبعث في كل جيل تحمل روحا جديدة فكل شاعر يحمل بداخله طيف شاعر سلك قبله درب الإبداع  والشعر ذاكرة ماض يتجدد، وصوتُ حاضرٍ يتغذّى من جذور ماض سحيق والتناص ما هو إلا حبل سري يصل بين من أنشد أغنيته الأولى على ذرات الرمال الملتهبة وبين من يكتب اليوم على جبين شاشة باردة بين  القصيدة الأولى ومعزوفة الزمن الأخير .


google-playkhamsatmostaqltradent