recent
أخبار ساخنة

شبح الشتاء الوبائي يعود إلى أوروبا

 

شبح الشتاء الوبائي يعود إلى أوروبا

شبح الشتاء الوبائي يعود إلى أوروبا


بقلم: حاتم السعداوي

يستعد العالم من جديد لموسم شتاء يُعيد إلى الأذهان ذكريات صعبة لم تُمحَ بعد، أيام فرضت فيها جائحة كورونا نمط حياة جديداً على البشرية: الكمامة، الإغلاقات، والعمل عن بُعد. ومع اقتراب شتاء 2025، تبدو أوروبا على شفا موجة من القلق المتصاعد، مدفوعة بتنامي المخاوف من فيروس الإنفلونزا AH3N2، سلالة قوية وسريعة الانتشار، تُعيد إلى الذاكرة حجم الضغوط التي يمكن أن تُلقيها الأوبئة على الأنظمة الصحية والمجتمعات.

فيروس AH3N2 ليس اكتشافاً جديداً، لكنه اكتسب شهرة واسعة لقدراته على إحداث مضاعفات خطيرة، خاصة لدى كبار السن والمرضى المزمنين، ما يجعله مصدر قلق بالغ. فالأوروبيون الذين لم يتعافوا بالكامل من الصدمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للجائحة السابقة يجدون أنفسهم أمام سيناريو مألوف، لكنه هذه المرة أكثر إثارة للرعب النفسي. القلق لم يعد مقتصراً على الخوف من العدوى فقط، بل امتد إلى تأثيراتها التراكمية على حياة الأفراد والعمل والاقتصاد، وهو ما يجعل مجرد الحديث عن قيود جديدة أو تدابير وقائية، حتى لو كانت محدودة، يثير مقاومة شعورية واسعة ويعيد الخوف من العزلة والشلل الاقتصادي.

في مواجهة هذا الخطر المحتمل، تعمل الحكومات الأوروبية على تطوير استراتيجيات وقائية مبكرة، من بينها اعتماد "البروتوكول الإسباني" كنموذج عملي للتعامل مع الأوبئة دون العودة إلى الإغلاقات الشاملة. هذا البروتوكول يركز على تعزيز حملات التطعيم الموسمية، وتحسين نظم المراقبة الوبائية، مع توفير أدوات الحماية الشخصية، مثل الكمامات، في الأماكن الحيوية وخلال فترات الذروة. الهدف الرئيسي هو تحويل الفيروس إلى مرض مستوطن يمكن إدارته، دون تعطيل عجلة الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية، ما يعكس درساً مهماً في إدارة المخاطر: التكيف والمرونة بدل الشلل والخوف.

التحدي الأكبر لا يكمن في التدابير نفسها، بل في التزام الجمهور بها. فنجاح أي استراتيجية وقائية يعتمد على مدى تقبل الناس للتدابير الجديدة، وإدراكهم بأن حماية الصحة العامة ليست مجرد فرض أو إلزام، بل مسؤولية مشتركة، تتطلب تعاوناً مجتمعياً واسع النطاق. وفي هذا الإطار، تتضح أهمية التواصل الفعال مع الجمهور، وشرح المراحل المختلفة للتعامل مع المرض، وطمأنة المجتمعات بأن الحياة يمكن أن تستمر بشكل طبيعي مع مراعاة التدابير الوقائية الضرورية.

الدرس المستفاد من التجارب السابقة واضح: القلق يتحول إلى استعداد، والرعب يصبح فرصة للتخطيط. الأوروبيون لم ينسوا صدمات 2020 و2021، وذاكرة الجائحة تشكل اليوم حافزاً لتطوير أنظمة صحية أكثر مرونة، ومجتمعات أكثر وعياً. إن التفكير في الكمامة ليس مجرد خوف من الفيروس، بل تذكير بالوحدة والعزلة التي فرضتها الأوبئة السابقة، وبالحاجة إلى أدوات واستراتيجيات تسمح بإدارة الأزمة دون تعطيل الحياة اليومية.

مع انخفاض درجات الحرارة، سيختبر هذا الشتاء قدرة المجتمعات الأوروبية والعالم بأسره على تطبيق الدروس المستفادة من كورونا. هل ستكون التدابير الوقائية كافية للسيطرة على شبح الشتاء الوبائي، أم ستعيد ذكريات الرعب والقيود؟ الأيام المقبلة ستكشف، ولكن ما هو مؤكد، أن التجربة السابقة منحت البشر معرفة ثمينة: القدرة على التكيف، والوعي بالاحتياجات الصحية، والاستعداد لمواجهة الأزمات بذكاء ومرونة. في النهاية، الرعب القديم قد يتحول هذه المرة إلى فرصة لإدارة المخاطر بشكل أكثر فعالية، وتأكيد قدرة المجتمعات على العيش بأمان وسط تحديات جديدة قد لا تُرى بالعين المجردة، لكنها موجودة في كل تنفس وكل لقاء.

هذا الشتاء، أكثر من أي وقت مضى، هو اختبار لصمود المجتمعات، وذكاء أنظمة الصحة العامة، ووعي الأفراد بقدرتهم على حماية أنفسهم ومحيطهم، مع الاستمرار في الحياة الطبيعية قدر الإمكان، بعيداً عن الخوف المشلول، وقريباً من القدرة على التعايش مع المخاطر المتجددة بمرونة وحكمة.


google-playkhamsatmostaqltradent